Skip Ribbon Commands Skip to main content
Sign In
الجمعة,26 نيسان, 2024
كلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون امام السلك الدبلوماسي
كلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون امام السلك الدبلوماسي
16/01/2017

سعادة السفير البابوي المونسنيور غبريالي كاتشا،
عميد السلك الدبلوماسي،
أصحاب السعادة،
حضرة ممثلي البعثات الدبلوماسية المعتمدة في لبنان،

 

يسعدني أن ارحّب بكم، للمرة الأولى في هذا العهد الرئاسي، في القصر الجمهوري، وإني اشكركم على تهنئتكم لمناسبة حلول العام الجديد، وعلى الكلمات الطيّبة التي وجهها باسمكم، عميد السلك الدبلوماسي في لبنان المونسنيور غابريالي كاتشا.
وللمناسبة، أتقدّم منكم، ومن عائلاتكم ومعاونيكم، بأطيب التمنيّات الشخصيّة، آملاً أن تنقلوا إلى رؤساء الدول والمنظمات الذين تمثّلون، كما إلى شعوبكم الشقيقة والصديقة، تمنيّاتي الصادقة لهم بمزيد من الإصرار في السير على دروب الاستقرار والازدهار، على الرغم من كلّ الصعوبات.
ولا يسعني، سعادة العميد، إلا أن أخصّ بالذكر هنا قداسة البابا فرنسيس، راجياً أن ترفعوا إلى قداسته كامل احترامنا ودعائنا، ومشاركتنا رجاءه بعالم يعمّ أرجاءه سلامٌ ترعاه الرحمة ومبادئ العدالة وقيم الحق، وقد دعا اليه قداسته، لمناسبة "اليوم العالمي الخمسين للسلام" في الأول من كانون الثاني من العام 2017، والى بنائه على أسس "اللاعنف".
نحن نؤمن باللاعنف، وقد اعتمدناه نهجاً لنا طيلة ربع قرن حتى أثمر في النهاية وطناً محرراً ، ونسعى على الدوام إلى أن يبقى السلام مخيماً في ربوعه.
إرادتي، كرئيس لبنان، أن أكرّس هذا الموقع حاضناً للصيغة اللبنانية الفريدة، القائمة على التعددية التي أثبتت عبر التاريخ صلابةً في مواجهة المحن الداخلية والخارجية، وقدرةً في التغلّب عليها. فالمجتمع اللبناني يجب أن يكون مثالاً تعايشياً حياً، لأن مستقبل العالم، على الرغم مما نشهد من عصبيات، هو في المجتمعات التعددية، بعدما سقطت الأحادية، سواء كانت سياسية أو عرقية أو دينية.
إرادتي هي تأمين الاستقرار، الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والمالي، فيطمئن اللبنانيون، أينما كانوا،  الى وطنهم، ويعود لبنان ليلعب الدور الإيجابي الذي اعتدتم عليه في الساحة الدولية. وقد بدأنا بوضع الخطط لذلك، وبعضها صار على طريق التنفيذ. 
إرادتي هي حماية سيادة الدولة وصيانة الوحدة الوطنية ومنع استجرار الفتن الى ساحتنا الداخلية.
إرادتي هي مؤسسات قادرة وفاعلة وشفافة تعيد ثقة المواطن بدولته، فيتعاون معها، وتكون له المرجع والسند.
لقد شهدت الأشهر الأخيرة في لبنان عودة المؤسسات الدستورية إلى مسارها الطبيعي. فصار لدينا مجلس وزراء حائز على ثقة البرلمان على أساس بيان وزاري جامع، كما أن مجلس النواب باشر بدورته الاستثنائية ف�� معالجة اقتراحات ومشاريع القوانين المتأخرة والملحّة، وفي مقدمها الموازنة وقانون الانتخاب. وأولى أولوياتنا تنظيم انتخابات نيابية وفق قانون جديد يؤمن التمثيل الصحيح لكافة شرائح المجتمع اللبناني، ما يوفّر الاستقرار السياسي.. أما تخوّف بعض القوى من قانون نسبي فهو في غير محلّه، لأن وحده النظام الذي يقوم على النسبية يؤمّن صحة التمثيل وعدالته للجميع. وعليه، قد يخسر البعضُ بعضَ مقاعدهم ولكننا نربح جميعاً استقرار الوطن.
أصحاب السعادة،
تفاقمت في الآونة الأخيرة المشاكل الاقتصادية في لبنان، في ظلّ أزمات دولية واضطرابات إقليمية أدّت إلى زيادة الحرمان وتوسّع الفقر لدى شرائح كبيرة من المجتمع اللبناني. وقد اتخذنا القرار بالتصدي للتدهور الذي يطال معظم قطاعاتنا الإنتاجية، لكن العقبات التي تعترض مسيرة نهضتنا الاقتصادية كثيرة ومنها تداعيات الأزمة السورية وأبرزها النزوح السوري الكثيف إلى لبنان.
لقد قدّم لبنان ما يفوق طاقته في مجال مد يد العون إلى أشقّائه، من سوريين وفلسطينيين. لكننا ننوء تحت وطأة استضافة نصف عدد سكاننا، فما من بلد في العالم يمكنه تحمل زيادة 50% من سكانه. إن الكثافة السكانية في لبنان أساساً مرتفعة، وكانت بمعدل 400 شخص في الكيلومتر المربع، وقد صارت اليوم 600، وهذا ما يجعلنا غير قادرين على استنهاض اقتصادنا كما نرجو، لا سيما أنّ ربع شباب لبنان بات عاطلاً عن العمل.
لا يمكن أن يُحمَّل لبنان، وحده، هذا العبء. نناشد دولكم أن تتحمّل مسؤولياتها كاملة، وأن تتحرّك من دون إبطاء، حفاظاً على مصالحكم ومصالح شعوبكم، لأنّ تداعيات موجات النزوح الكثيف غير المسبوقة في تاريخنا المعاصر تهدّد وجود جميع الأوطان واستقرارها. وانطلاقاً من هنا، نطالب المجتمع الدولي بأن يعترف بخصوصية لبنان ويرفض أي فكرة لاندماجهم فيه، كما نطالب دولكم مؤازرة جهودنا للتوصّل إلى الحلّ الوحيد المستدام لأزمة النازحين السوريين إلى بلدنا، وهو في عودتهم الآمنة إلى بلدهم.
في هذا الإطار، يرحّب لبنان بكل مبادرة من شأنها أن تؤدّي إلى حلّ سلميّ سياسيّ للأزمة في سوريا، ونتمنّى أن تأتي جميع المبادرات في سياق واحد، فتنسجم في ما بينها، وتصبح بالتالي كفيلة بإرساء قواعد حلّ طويل الأمد للصراع في سوريا.
إن السياسات الدولية هي التي أوصلت الوضع في منطقة الشرق الأوسط إلى ما هو عليه، واطفاء الحرائق صار حاجة عملية ومصلحة في آن، لأن النيران بدأت تحرق أصابع من صنعها.

أصحاب السعادة
لقد ذكّر قداسة البابا في رسالته، بكلام لأسلافه في اليوم العالمي للسلام:
"إن السلام كي يقوم يجب أن يرتكز على القانون والعدالة والمساواة والحرية"،
فأين العالم اليوم من هذه القيم؟ وأين المؤسسات الدولية التي يفترض أن تكون هي من يحميها ويعمل على تطبيقها وترسيخها؟
بعد الحرب العالمية الثانية أُنشئت منظمة الأمم المتحدة وكان من مقاصدها، وفق المادة الأولى من الفصل الأول من ميثاقها، "حفظ السلم والأمن الدوليين"، " حل النزاعات الدولية وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي"، "المساواة في الحقوق بين الشعوب"،  "حق تقرير المصير"، "تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات"..
لقد علّق العالم المستضعف آمالاً كباراً على هذه المؤسسة ومثيلاتها، لمساعدته على التحرر وحمايته من طغيان القوى التي تحاول السيطرة عليه، فماذا كانت النتيجة؟ وهل استطاعت تلك المؤسسات أن تحترم ما التزمت به؟
بالإضافة الى أرضنا المحتلّة، لنأخذ المشهد القريب جداً منا، الملاصق لحدودنا، وأعني المشهد الفلسطيني، ولبنان جدّ معنيّ به، لما يترك من تداعيات عليه منذ ما يقارب سبعة عقود ماضية.
لقد قُسّمت فلسطين بقرار دولي من الأمم المتحدة يحمل الرقم 181، الى قسمين، قسمٌ لليهود وآخر للعرب، ولكن الإسرائيليين لم يكتفوا بذلك، بل طمعوا بالجزء العربي أيضاً،  فطردوا الفلسطينيين منه بعد حرب تطهير عرقيّ، وثقها الكاتب الإسرائيلي أيلان بابيهIlan Pappé   في كتابه "حرب التطهير العرقي".
لقد اعتمد الفلسطينيون في حينه مبدأ اللاعنف، ولكن اللاعنف، إذا ووجِه بالعنف المفرط من الجهة المقابلة، وبغضِّ نظرٍ يصل الى حد التشجيع من الجهات المراقبة، سينفجر في النهاية عنفاً دموياً لا ينتهي، كما حصل في فلسطين.
القرار الأول للأمم المتحدة بشأن فلسطين أشعل حرباً، فيما القرارات الأخرى لم تنفّذ، فماذا فعلت المؤسسات الدولية حيال ذلك؟ لماذا لا تأخذ قراراً يلزم إسرائيل بإعادة الأرض المتّفق عليها للفلسطينيين والاعتراف بهويتهم؟ ولماذا لا يزال الإسرائيليون يسلبون أرض الفلسطينيين حتى اليوم؟؟ ولماذا يهدمون منازلهم ويحرقون بساتينهم، ويستملكون أرضهم ليبنوا المستوطنات؟ إن إسرائيل اليوم تستغلّ انشغال العالم بأزمات المنطقة وفشل جهود السلام، من أجل التمادي في سلب حقوق الفلسطينيين والاستمرار في التعدّي على سيادة جيرانها، وفرض أمر واقع لن يمكن العودة عنه في المستقبل.
 
أصحاب السعادة
في السنوات الأخيرة، بدأ مشروع ما سميّ "الفوضى الخلّاقة" في منطقتنا، فاشتعلت الحروب الداخلية في الدول العربية، وسُمِّيَ ذلك بـ"الربيع العربي"، فماذا شهدنا من ذلك الربيع؟ هل الربيع يكون بإلغاء معالم الحضارات القديمة التي أسّست لحضاراتنا اليوم؟  هل يكون بتهديم الكنائس والمساجد ودور العبادة، وبتحطيم الآثار؟! هل يكون بذبح الأبرياء وتدمير المدن؟! هذا يا سادة جحيم العرب وليس ربيعهم.
ما الذي أنتجته تلك "الفوضى الخلّاقة" غير الحقد والكراهية والآلام والضحايا؟ ومتى كانت الفوضى خلّاقة؟؟ أين شرعة حقوق الإنسان مما يحصل؟؟
لنا كل الحق في هذه التساؤلات، ونوجّهها للدول التي تتجاهل حقوق الإنسان ولا تتذكرها إلا وفق مصالحها، فكلّنا معنيّون، وكلّنا موقّعون على معاهدة حقوق الإنسان.. 
تلك الدول التي تسمّي إرهاباً كلَّ ما يمسّ بأمنها، وتسمي "ثورةً" كلَّ الإرهاب الذي يخدم مصالحها!
الإرهابُ إرهابٌ أينما ضرب؛ فالسيارات المفخخة، والقتلة المتجولون، والانتحاريون المتفجّرون بين الأبرياء،  جميعهم من صنع الإرهاب، سواء ضربوا غرباً أو شرقاً، جنوباً أو شمالاً.
أصحاب السعادة،
لبنان ليس في عزلة عن محيطه، وانشغالنا في ترتيب بيتنا الداخلي لم ينسنا خطر النار المشتعلة حولنا. يخطئ كلّ من يظنّ أنه ما زال باستطاعة دولة ما، مهما كبر حجمها أو صغر، أن تبقى خارج دائرة الأزمات العالمية وأن تحجز لنفسها مكان المتفرّج. إمّا أن ننجو جميعاً بفضل التعاون والحوار أو أن نذهب جميعاً ضحية ما يحصل.
إنّ الإرهاب الذي يعاني منه العالم ليس جديداً علينا، فلبنان من أوائل الدول التي ضربها وأوقع لنا العديد من الشهداء، مدنيين وعسكريين، ومن أوائل الدول التي تصدّت له، ولا يزال حتى اليوم في خطوط المواجهة الأمامية ويتلقّى النتائج والتبعات.
إن التعاون الأمني والمخابراتي ضرورة حيوية لمكافحة الإرهاب، لكن يبقى أن هذا الإرهاب يتغذّى من الأزمات المندلعة شرقاً وغرباً، وينتشر ويتمدّد بالفكر الظلامي التكفيري الرافض للآخر، وينتعش بالدعم المالي واللوجستي والعسكري الذي يقدّم له.
لذلك نرسل صرخة إلى العالم، إلى الدول الكبرى، إلى الأمم المتحدة، إلى كل المؤسسات الدولية: إن المسار الصحيح يُرسم عبر إرادة دولية راغبة حقاً بإنقاذ العالم من الإرهاب وإرساء السلام؛
فإذا أردتم السلام عليكم أن تجدوا حلولاً لمشاكل المنطقة، لا تقوم على القوة بل على العدالة التي ترفع الظلم وتعطي الحقوق لأصحابها.
إذا أردتم السلام، فعليكم أن تطفئوا النار في مصادر اشتعالها، فالنار لا تنطفئ بنفسها طالما هناك حطب يوقد لها.
كلّ عام وأنتم بخير،
عاش لبنان